الخميس، 6 أكتوبر 2016

شرح قصيدة السموأل - إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللومِ عِرضُهُ

شرح قصيدة السموأل - إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللومِ عِرضُهُ


لاميّة السّموأل - السّموأل بن عاديا

السّموأل بن عاديا 
ترجمة الشاعر والمناسبة باختصار:
السموأل بن غريض بن عادياء الأزدي شاعر جاهلي يهودي حكيم واسمه معرب من الاسم العبري (عن العبرية شْمُوئِيل ، من شِيم: اسم، إِيلْ: الله، أي سمّاه الله). عاش في النصف الأول من القرن السادس الميلادي. كان يتنقل بين خيبر وبين حصن له سماه الأبلق وكان حصن الأبلق قد بني من قبل جده عادياء. والابيات هاهنا تعتبر من أشهر أشعاره، قالها عندما أجار ابنة الملك المنذر عندما فرت من بطش "كسرى فارس"...


الابيات 

1 - إِذا المَرْءُ لَمْ يَدْنَسْ مِن اللُّؤْمِ عِرْضَـهُ ** فـــكُـــلُّ رِداءٍ يَــرْتَــدِيـــهِ جَــمِــيـــلُ
2 - وإِنْ هُو لَمْ يَحْمِلْ على النَّفْسِ ضَيْمَها ** فَلَـيْـسَ إلــى حُـسْــنِ الـثَّـنـاءِ سـبـيـلُ
3 - وقـائِـلَـةٍ: مـــا بـــالُ أُسْـــرَةِ عـادِيــا ** تَــبــارَى، وفِـيـهــمْ قِــلَّــةٌ وخُــمُــولُ
4 - تُـعَـيِّـرُنــا أَنَّــــــا قَــلِــيــلٌ عَــدِيــدُنــا ** فـقـلــتُ لــهـــا: إِنَّ الــكِـــرَامَ قَـلِــيــلُ
5 - ومــا ضَـرَّنــا أَنَّـــا قَـلِـيـلٌ وجَـارُنــا ** عَـزِيــزٌ، وجـــارُ الأَكْـثَـرِيـنَ ذَلِـيــلُ
6 - ومــا قَــلَّ مَــنْ كـانَـتْ بَقـايـاهُ مثْلَـنـا ** شَـبــابٌ تَـسـامَـى لِـلْـعُــلا وَكُــهُــولُ
7 - لَـنــا جَـبَــلٌ يَـحْـتَـلُّـه مَــــنْ نُـجِـيــره ** مُنِيـفٌ، يَــردُّ الـطَّـرْفَ وهْــوَ كَلِـيـلُ
8 - رَسَا أَصْلُه تَحْـتَ الثَّـرَى، وسَمـا بِـهِ ** إِلــى النَّـجْـمِ فَــرْعٌ لا يُـنـال طَـويــل
9 - هـو الأَبْلَـقُ الفَـرْدُ الـذي سـارَ ذِكْـرُهُ ** يَـعِــزُّ عـلــى مَـــنْ رَامـــهُ فـيَـطُــولُ
10 - وإِنَّــا لَـقَـوْمٌ مــا نَــرَى القَـتْـلَ سُـبَّــةً ** إِذا مــــا رَأَتْــــهُ عــامِــرٌ وَسُــلُـــولُ
11 - يُـقَـرِّبُ حُـــبُّ الـمَــوْتِ آجـالـنَـا لَـنــا ** وتَــكْــرَهُـــهُ آجــالُــهُـــمْ فــتَــطُـــولُ
12 - ومــا مــاتَ مِـنَّـا سَـيِّـدٌ حَـتْـفَ أَنْـفِــهِ ** ولا طُــلَّ مِـنَّــا حَـيْــثُ كـــانَ قَـتِـيـلُ
13 - تَسِـيـل عـلـى حَــدِّ الظُّـبـاتِ نُفُوسـنـا ** ولَيْسَـتْ علـى غَيْـرِ الظُّـبـاتِ تَسِـيـلُ
شرح المعاني والابيات:


إذ المرء لم يدنس من اللؤم عرضه 
فـكـل رداء يرتديـه جمـيـل 
اللؤم : اسم جامع للخصال المذمومة , والمعنى أن الإنسان إذا لم يتدنس باكتساب اللؤم واعتياده فأي ملبس يلبسه بعد ذلك كان جميلاً . 
--------------------------------------------------------------------------------

وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها 
فليس إلى حسن الثناء سـبيل 
أي إن لم يصبر النفس على مكارهها فلا سبيل إلى اكتساب حسن الثناء وليس معنى الضيم ضيم الغير لهم لأنهم يأنفون من ذلك ويعدونه تذللا . 
--------------------------------------------------------------------------------

تـعـيرنا أنـا قـليـل عـديـدنـا 
فقلـت لهـا إن الكرام قليل 
يقال عيرته كذا وعيرته بكذا والأول المختار المعنى أنها أنكرت منا قلة عددنا فعدته عارا فأجبتها إن الكرام يقلون وقوله إن الكرام قليل يشتمل على معان كثيرة وهي وقوع الدهر بهم وقصد الموت إياهم واستقتالهم في الدفاع عن أحسابهم وإهانتهم كرائم نفوسهم مخافة لزوم العار بهم فكل ذلك يقلل العدد . 
--------------------------------------------------------------------------------

ومـا قل من كانـت بقايـاه مثلنا 
شـباب تسـامى لـلـعلا وكهول 
الشباب جمع شاب كالشبان وقوله تسامي أراد تتسامي فحذف إحدى التاءين والكهول جمع كهل ضد الشباب . 
--------------------------------------------------------------------------------

ومـا ضرنـا أنـا قـليل وجـارنـا 
عـزيز وجـار الأكثريـن ذليل 
وما ضرنا يجوز في ما أن تكون نافية والمعنى لم يضرنا ويجوز أن تكون استفهامية على طريق التقرير والمعنى أي شيء ضرنا . 
--------------------------------------------------------------------------------

لنـا جـبـل يـحتـلـه مـن نـجيره 
منيع يرد الـطـرف وهو كليل 
قيل إنه أراد بذكر الجبل العز والسمو وقيل إن هذا الجبل هو حصن السموأل الذي يقال له الأبلق الفرد يعني من دخل في جوارنا امتنع على طلابه . 
--------------------------------------------------------------------------------

رسـا أصـلـه تحـت الثرى وسما به 
إلى النجم فرع لا ينال طويل 
رسا أصله إلى آخر البيت يريد أنه أثبت جبل في الأرض وأعلى طود عليها . 
--------------------------------------------------------------------------------

هو الأبلق الفرد الذي شاع ذكره 
يعز على من رامه ويطول
الأبلق الفرد هو حصن السموءل بناه أبوه وقيل سليمان عليه السلام بأرض تيماء وقصدته الزباء فعجزت عنه وعن مارد فقالت تمرد مارد وعز الأبلق 

.................................................. .................
وإنـا لـقـوم مـا نرى القتل سبة 
إذا مـا رأتـه عامر وسـلول 
السبة العار وعامر وسلول قبيلتان يقول إذا حسب هؤلاء القتل عارا عده عشيرتي فخراً . 

--------------------------------------------------------------------------------
يـقرب حـب المـوت آجـالـنا لـنا 
وتـكـرهه آجـالـهم فتـطـول 
يشير به إلى أنهم يغتبطون لاقتحامهم المنايا وإن عامرا وسلولا يعمرون لمجانبتهم الشر كراهة للموت وحبا للحياة . 


--------------------------------------------------------------------------------
ومـا مـات مـنا سـيد حـتف أنـفه 
ولا طل مـنـا حيث كـان قتيل 
يقال مات فلان حتف أنفه إذا مات من غير قتل ولا ضرب قيل إن أول من تكلم بقولهم حتف أنفه النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعنى البيت أنا لا نموت ولكن نقتل ودم القتيل منا لا يذهب هدراً . 

--------------------------------------------------------------------------------
تسـيل عـلى حـد الـظبات نفوسـنا 
وليست على غير الظبات تسيل 
الظبات جمع ظبة وهي حد السيف قيل أراد بالظبات السيوف كلها فأضاف الحد إليها أي أنهم لشجاعتهم وشرفهم لا يقتلون إلا بالسيوف ولا يقتلون بالعصي ولا بالحجارة كما يقتل رعاع الناس . 




بدأ الشاعر هذه القصيدة ببيتين من الحكمة وهما من الأبيات الرائعة فالشاعر يقول : إنّ المرء إذا لم يدنس ويلطخ عرضه بمكروه أو قبيح كاللؤم ، فكل ما يرتديه يعد جميلا في نظر الناس فالعبرة إذا ليس بما يلبسه الناس من ملابس فاخرة وإنما العبرة في حفاظ المرء على عرضه من قبيح الصفات ، وكذلك إن هو لم يرفع الظُّلم أو الإذلال ونحوهما على النفس ، فليس له طريق أو سبيل إلى حسن وجميل الثناء من أحد . 

تعيرنا أنا قليل عديدنا *** فقلت لها .. إن الكرام قليل

ينتقل الشاعر إلى غرضه الأساسي وهو الفخر بقبيلته وعشيرته فيقول إنها تعيرنا و تسبنا بقلة عددنا وتربطه بضعفنا وهو أمر سلبي ، فيرد عليها محولا علة قلة عددهم وبأسلوب حكيم عرف عند العرب أن علة ذلك هو الكرم فقومه قليلو العدد لأنهم كرام وهي ميزة ايجابية ، فالكرام حين تعدهم قليل ،

وما ضرنا أنا قليل وجارنا*** عزيز و جار الأكثرين ذليل

ثم يقول : وما يضرنا ـ والضرر هو ما يلحق الإنسان من مكروه ـ إن كنّا قلة ، مادام جارنا عزيزا وقوياً بنا ، وجار الأكثرين ذليل فهل نفعتهم كثرتهم ؟ وهذا من مفاخر العرب أن يكون الواحد منهم عزيزاً إلى درجة أنه قادر على حماية غيره بحيث يكون جاره عزيزاً ،

وماقل من كانت بقاياه مثلنا ***شباب تسامى للعلا وكهول

ثم يقول : قليل هم من كانت بقاياه وما خلفه مثلنا شباب وكهول تفاخروا وتباروا في المعالي والمكارم . 

وما مات منا ميت في فراشه ***ولا طل منا حيث كان قتيل

ومازال يفتخر بشجاعة قبيلته فيقول : إنه ما فينا سيد أو زعيم مات حتف أنفه، أي: مات على فراشه، إنما في المعارك وتحت ظلال السيوف ، 
وهذه هي حال الشجاعة عند العرب فهي جبلةً وغريزة فيهم، حتى إن العرب كما قال الألوسي وغيره: إنهم كانوا يتمادحون بالموت قطعاً بالسيوف ويتهاجون بالموت على الفراش. فيقولون: فلان مات حتف أنفه -أي مات على فراشه- هذا علامة ذل وسب له، أما إذا قالوا: فلان مات مقطعاً بالسيف والسنان والرماح والخناجر، واختلفت السيوف في بطنه، كان هذا دلالة على المدح والثناء عليه. قال بعض العرب وقد بلغه موت أخيه: إن يقتل فقد قتل أخوه، وأبوه، وعمه، إنا والله لا نموت حتفاً، ولكن نموت قطعاً بأطراف الرماح وتحت ظلال السيوف . وفي الشطر الثاني يقول ولا فينا أحد ذهب دمه هَدَراً ولم يُثْأَرْ له ، 


تسيل على حد الظبات نفوسنا ***وليس على غير السيوف تسيل

هذا البيت تأكيد للبيت السابق في بيان شدة شجاعتهم فيقول نفوسنا على حد السيوف تسيل وتجري لاعلى غيرها تسيل ، وقوله " نفوسنا من باب المجاز وإنما أراد الدماء لا النفوس ، فالنفوس لا تسيل وإنما الدماء فأطلق الكل وأراد الجزء 

إذا سيد منا خلا قام سيد *** قؤول لما قال الكرام فعول 
وما أخمدت نار لنا دون طارق*** ولا ذمنا في النازلين نزيل 

ثم انتقل من فخره بشجاعتهم إلى فخره بكرمهم فيقول : إذا سيد منا مات قام سيد حسن القول كريم وليس فقط قؤولا بل فعولا لما يقوله ، وما أطفئت نار لنا أمام الآتي بالليل وهو الضيف أو المحتاج . ولا ذمنا أو انتقصنا وعابنا أي ضيف نزل علينا . " وهنا كناية عن شدة كرمهم ، 

وأيامنا مشهورة في عدونا*** لها غرر معلومة وحجول 
وأسيافنا في كل شرق ومغرب ***بها من قراع الدارعين فلول

وفي نهاية القصيدة يثبت كل ما افتخربه فيقول : إنّ أيامنا معروفة ومشهورة في عدونا أي يعرفها عدونا لما ناله منا ، فهي بيضاء واضحة مشهودة لذا عبر عنها بالغرر والحجول فالغرر هو البياض فيقال غرر الأسنان أي : بياضها ، والحجول من التحجيل وهو بياض يكون في قوائم الفرس وكلاهما كناية عن البياض والوضوح . وأسيافنا من كثرة القتال ومقارعة الأعداء أصبح بها ثلمة 

دراسة الأبيات دراسة أدبية 
===============
أولا : من حيث الأسلوب والمعاني : 
============== =====
هذه القصيدة من الشعر الجاهلي وإن اُختلف في من هو قائلها ، تحدث الشاعر فيها كما هي عادة الشعراء عن أهم موضوع يشغل الشعراء في ذلك العصر ألا وهو الفخر وقد صاغ هذه المعاني بأسلوب قوي رصين بدأها ببيتين في الحكمة . 

ثانيا : من حيث العبارات والألفاظ : 
==================
عبارات الشاعر قوية معبرة عن المعنى المقصود ساق هذه العبارات بألفاظ قوية فصيحة وفي نفس الوقت نراها سهلة مناسبة للمعنى ومن تلك الألفاظ " عزيز و جار الأكثرين ذليل ، "وما مات منا ميت في فراشه 
حتى أن القصيدة كلها على هذا المنوال . 

ثالثا : العاطفة : 
========
عاطفة الشاعر عاطفة مدح فخر بقبيلته فمن الطبعي أن تكون العاطفة صادقة نقلت مشاعره وفخره إلينا نحن كقراء . 

رابعا : الصور البلاغية : 
=============
قد لا يكون الموضوع والمعنى بحاجة إلى استخدام الصور البلاغية أو الجمالية ومع ذلك فالقصيدة لم تخل من هذه الصور وخاصة الكناية ومن هذه الصور على سبيل المثال لا الحصر 
الأسلوب الحكيم في قوله : " فقلت لها .. ان الكرام قليل " حيث علل قلّة عددهم لكرمهم 
الطباق والمقابلة في قوله " أنا قليل وجارنا عزيز و جار الأكثرين ذليل
الكناية في قوله : " وما مات منا ميت في فراشه " وقوله : " تسيل على حد الظبات نفوسنا وليس على غير السيوف تسيل وكلاهما كناية عن شجاعتهم . 
وكنايته عن كرمهم في قوله : " وما أخمدت نار لنا دون طارق ولا ذمنا في النازلين نزيل .

المجاز في قوله " تسيل نفوسنا " فعبر عن الكل وهو أراد الجزء " الدم "

دراسة مستفيضة للامية السّموأل:




لو رجعنا إلى هذه القصيدة وألقينا عليها نظرة ناقدة لوجدنا أنها من حُرّ الشعر وفاخره، لما فيها من أفكار رزينة حكيمة مصوغة بأسلوب جزل متين، تناولت فناً من الفنون الشعرية الجادة الرصينة التي عرفها الجاهليون والإسلاميون وجمهور الشعراء في العصور اللاحقة إلى يوم الشعر هذا، ونعني بذلك فن الفخر؛ فالأبيات كلها تدور حول الفخر وما يندرج تحته من معانٍ، كالفخر بصون العرض وحمل النفس على المكروه في اليبتين الأول والثاني، ثم أورد ثلاثة أبيات يناقش فيها ظاهرة قلة عدد أفراد قبيلته في مجتمع كان فيه صراع البقاء بين القبائل على أشده، وهذا الصراع يستلزم بالضرورة كثرة العدد لمواجهة الطبيعة القاسية وطغيان القبائل الكبرى التي لا تمنعها شرعة الجاهلية من التهام القبائل الصغرى. غير أن الشاعر يتمدح بالقيم العربية المثلى على قلة عدد قومه، وهذا العدد القليل لرجال قبيلته يمنعه أيضاً من الفخر بمنعة جانبهم. ثم علل منعة الجانب وحماية الجار والحفاظ على العرض بعامل واحد هو الاستماتة في سبيل هذه المثل العليا، فوقف عند هذا القسم وقفة أطول جعلها في أربعة أبيات، وبعد تعليله لمقومات فخره بالقيم السابقة التفت ليفتخر بقيمة طالما افتخر بها الجاهليون وهي صفاء النسب وعراقته، وجره هذا النوع من الفخر إلي قريب منه وهو التغني بسؤدد قومه ورجاحة عقولهم ليخلص إلى الفخر بكرم قومه في بيت واحد. ويعاوده هاجس الفروسية والحرب مرة أخرى فيدلف إلى الحديث عن الشجاعة وأيام القراع وسيوف المعركة فيستغرق ذلك ثلاثة أبيات أخرى، ثم يُنهي قصيدته بفعل الأمر لهذه التي تخيلها في أول القصيدة تُعيِّره بقلة العدد فيطلب منها ألا تتسرع بازدراء قوم الشاعر لقلة عددهم، وغيرهم من بعض القبائل الكثيرة العدد، على كثرتهم فالعين تقتحمهم والاختبار يخيب الأمل فيهم.


فهذه القصيدة توقفنا على الملاحظات النقدية التالية:


الملاحظة الأولى: أنها خرجت عن النهج التقليدي الذي سارت عليه القصيدة العربية طوال عصور عدة وقرون طويلة، هذا النظام الذي رصد أقسامه ابن قتيبة وهو يتحدث عن شكل القصيدة العربية، كما سمع من شيوخه يعللون أسباب إيراد أقسامها؛ بدءاً من الأطلال والوقوف عليها والتغزل بصويحباتها ووصف راحلاتهن ورحلتهن، وانتهاءً بالحكمة التي تُجعل مسك الختام في كثير من القصائد، ومروراً بالغرض الأساسي الذي أنشئت القصيدة من أجله كالمدح والفخر والهجاء وغيرها. ولاحظنا أن قصيدتنا هذه خلت من المقدمة الطللية، أو المطلع الغزلي، وما يستتبعه من وصف رحلة وراحلة، بل ابتدأت مباشرة بالموضوع الأساسي الذي هو الفخر بالقيم التي كانت موضع الفخر في تلك الأيام. فهل يجوز لنا أن نفترض أن ثمة مقدمة غزلية أو طللية، ولكن الرواة الذين نقلوا لنا القصيدة أضاعوا هذه المقدمة؟ ليس عندما ما يعزز هذا الفَرَض إلا ما نلحظه من فقدان التصريع في اليبت الأول من هذه القصيدة، وهو تقليد فني محض يكاد يكون ملازماً للبيت الأول من مطالع القصائد العربية، يصطنعه الشاعر في البيت الأول من قصيدته وهو في أزمة البحث عن القافية المنشودة، والإيقاع الموسيقي الذي يتقمصه البحر العروضي الذي يهتدي إليه الشاعر عند اهتدائه للبيت الأول في منظومته. فالتصريع- على بساطته- يقوم بدور الإيقاع المقفى الذي يُرهص لجميع أبيات القصيدة، ويظل الشاعر المُقْدم على نظم القصيدة، قبل أن يهتدي لاختيار بحر قصيدته وقافيتها كالقارب التائه عن المرفأ، فإذا وجده- وهذا ما يتضمنه التصريع- أصبحت الطريق أمامه مستوية لاحبة.


قلتُ: إن الأطلال والغزل بالمرأة قد فُقدا في مطلع هذه القصيدة، ولكن شبح المرأة لم يُفقَد لا في أول القصيدة ولا في آخرها، أليس في البيت الثالث يقول:


تُعيرنا أنّا قليلٌ عديدنا


فقلت لها: إنّ الكرامَ قليلُ


وبعض المصادر يجعل هذا البيت أول أبيات القصيدة، ومهما اختلفت المصادر فإنها تتفق على أن القصيدة تُختَتم بقوله:


سَلِي، إنْ جَهِلْتِ، الناس عنا وعنهم


فليس سواءً عالمٌ وجهولُ


فالشاعر لم ينس المرأة في أول القصيدة ولا في آخرها، فشبحها ماثل أمام عينيه، ولكن رؤيته للمرأة تختلف عن رؤية غيره من الشعراء الآخرين، فقد جاءت عند أكثرهم، أو جاءت أطلالها مصدر إلهام شاعري، تغزل بها الشاعر "ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، وليستدعي به إصغاء الأسماع إليه؛ لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل وإلف النساء"(42) على حد قول ابن قتيبة.


ولكن عند شاعرنا هذا جاءت المرأة مُعَيِّرة معاتبة، وإن شئت فقل: متحدية، وهو موقف أشرف من موقف المرأة المُتغزَّل بها، ولهذا جاء موقف شاعرنا ليس بموقف الرجل المتهالك المتباكي على الأطلال، وإنما موقف الرجولة المشوبة بالكبرياء والشمم، ولهذا جاء فعل الأمر (سلي)، وبأسلوب رقيق جداً اتهمها بالجهل عندما قال: فليس سواء عالم وجهول. هذا الشطر، على الحكمة التي تتراءى بين كلماته، إلا أن ثمة ظلالاً من الاتهام بالجهل تتراءى أيضاً بين معانيه.


الملاحظة الثانية: تتلخص بأننا ما دمنا نفينا عن هذه القصيدة أنها سارت على النهج التقليدي الذي مؤداه تعدد الموضوعات في القصيدة الواحدة، فلذا يمكننا أن نصفها بما سماه النقاد ب(وحدة الموضوع) لأن كل أبيات القصيدة التي تربو على عشرين بيتاً تدور في فلك غرض واحد هو الفخر، فإذا تنتظمها وحدة موضوع هو الفخر. صحيح أننا نلمح فيها أيضاً (وحدة البيت) إذ يقوم كل بيت بفكرة قائمة بذاتها، ويصلح أن ننتزع البيت من القصيدة ونتمثل به حكمة مستقلة أو مثلاً شارداً، ولكن مع ذلك يُشكِّل البيت مع الأبيات التي قبله والأبيات التي بعده وحدة موضوعية، ولعل السبب في ذلك أن القصائد التي سارت على ما يسمى في النقد ب(عمود الشعر)- وهذه واحدة منها- تتوخى الخصائص التي يتطلبها عمود الشعر في القصيدة، ولو تساءلنا: ما خصائص عمود الشعر هذه؟ لأجابنا المرزوقي الناقد الذي قنن قوانين عمود الشعر وقعّد القواعد لها فقال عنه: "إنهم كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف- ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال وشوارد الأبيات- والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما، فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر.." الخ(43) أليست عناصر عمود الشعر متوافرة في هذه القصيدة العمودية؟!


ولو بقينا في إطار وحدة الموضوع لقادنا إلى أن وحدة الموضوع تستتبع (الوحدة النفسية) في القصيدة، والوحدة النفسية واضحة في هذه الأبيات، فالعاطفة التي حفزت الشاعر على نظم القصيدة هي عاطفة الفخر والاعتزاز، وهي تلف الأبيات من أولها إلى آخرها، وهي عاطفة تتسم بالعمق لمسحة الصدق التي تغلفها، وقد نتهم العاطفة في القصيدة المدحية بالسطحية، ونلتمس العذر لذلك الشاعر بما تستلزمه ضرورات المجاملة، إن لم نقل ضرورات العيش ومتطلبات التكسب، ولكن قائل القصيدة الفخرية ليس مضطراً لشيء من ذلك، لذا نحكم على العاطفة عند الشاعر المفتخر بأنها أقرب ما تكون إلى الصدق. نقول هذا مع اعترافنا بأن القَدْر العقلي في هذه الأبيات أوفر من القَدْر العاطفي فيها، فطابع المعاني الصادرة عن العقل يغلب على طابع العاطفة الصادرة عن القلب والوجدان، ولهذا السبب اقتربت أبيات قصيدتنا هذه من الحكمة، ولهذا السبب أيضاً وضعها ابن طباطبا في كتابه (عيار الشعر) في (الأشعار المحكمة) التي قدم لها بقوله: إنها "المتقنة، المستوفاة المعاني، الحسنة الوصف، السلسة الألفاظ، التي خرجت خروج النثر سهولة وانتظاماً، فلا استكراه في قوافيها، ولا تكلف في معانيها، ولا عيّ لأصحابها فيها"(44).


ولكل هذه الخصائص التي توافرت فيها سارت على كل شفة ولسان، وانتشرت انتشار الأمثال. ونظراً لشهرة القصيدة وقرب معانيها من النفس وأفكارها من العقل اكتسبت الخلود






هناك 10 تعليقات:

  1. شو الفكرة الرئيسية

    ردحذف
  2. شرح رائع وفيت وكفيت

    ردحذف
  3. ممكن اعراب النص بعد اذنك

    ردحذف
  4. ممتاااااااااز جدا اوفيت وكفيت

    ردحذف
  5. تعليق بسيط
    في قوله عالم وجهول ولم يقل عالم وجاهل
    الحكمه في عالم هو الذي يعلم عن القبيلة وليس بجديد علي انه كل الناس عارفين مكانتهم جهول هو الجاهل مكانتنا بين العرب والقبائل
    ..
    .. مشعل دارجعل

    ردحذف
  6. ما اسم المرأة التي عيرته

    ردحذف
  7. قصيدة في غاية السمو والرقي

    ردحذف